قبل كتابة هذه السطور؛ توجهت إلى ذاك السور الطويل والممتد بجانب إحدى الطرق الرئيسية، حيث كنا نقطن قبل 15 عاما، والفاصل بين المساكن وبين المقبرة حيث ودعنا فيها أهلونا. كنا نلعب على طرف من امتداد ذلك السور كرة القدم وقت العصرية، أي قبل أن يحل الظلام فيتحول المكان إلى مركن للسيارات ليلا. كان ذاك الفضاء الواسع هو الذي يجمع الأولاد من كل الأحياء لتقام فيه المباريات لنفس الفئات العمرية. لكن ورغم ارتيادنا المكان معظم الأحيان، إلا أن عائقا كان يحيل بيننا وبين لعبنا ويزاحمنا المكان؛ وهو ذاك الصف المتراص بجانب السور لكبار السن يلعبون لعبة "ضامة". وتعتبر هذه اللعبة من أبسط اللعب التي تجمع الأشخاص إما في منازلهم أو خارجها، لما توفره إمكانية تكوينها من أبسط الأدوات. وقد تشبه نوعا ما لعبة "الشطرنج" في شكلها، إلا أنها أقل تعقيدا بكثير.
وكثيرة هي الأسئلة التي كنا نرمق بها أناسا بين 40 إلى 70 عاما يدمنون على لعب "ضامة"، وتنقضي أعمارهم ونهاياتهم بين آمالنا وطموحاتنا دون أن يشعروا بنا. ورغم معرفتنا بقواعد لعبتهم ومحاكاة تصرفاتهم أحيانا ، إلا أن ثقوب شبكة عقولنا (كما يقول علماء سلوك الأطفال) كانت أضيق، فلم نسمح لأي شيء أن يمر دون أن نجربه وان نكتفي به.. وربما هو الشيء الذي رمانا بين أحضان التكنولوجيا ونحن نكبر. لكن ما الذي تحول فينا وتحول فيهم؟ ولماذا وجدت المكان على حاله ولم أجدهم اليوم؟
التحكم في "لماذا"
في تجربتنا الإنسانية تساءلنا عن أكثر الأشياء تأثيرا، وعن العقول التي أبدعت وغيرت في حياتنا الفردية والجماعية، وكثرت التساؤلات عندما ازدادت حاجتنا إلى توظيف تلك الأشياء على نطاق أوسع. وفي القرن الأخير ازدادت التساؤلات لتغير تلك الأشياء في تجاربنا الخاصة. فمنذ تجربة الإخوة لوميير lumiere إلى الحاسوب الأول إلى بيل غيتس وستيف جوبز، لم يعد الحديث عن الصناعة والاختراع مجرد تاريخ أو حتى حاجة، بل أضحى ثقافة وأسلوب حياة. ولم نعد نتساءل عن كيف جاءت الأشياء، كما قال "وايتهد"؛ بل أصبحنا نسأل لماذا جاءت. والسينما والتلفزيون وألعاب الفيديو.. والميديا عموما اختزلت لنا لهفنا نحو الأشياء الجديدة كثقافة في كنف جديد.
لكن لنأخذ الشاشة أو العالم الافتراضي كنموذج يطرح مجموعة من احتمالات وفرضيات حول تأثيره المباشر أو غير المباشر على نمط حياتنا وعلى إدراكنا لتجربتنا الجديدة.
يعرف عن التلفزيون أداة لإيصال المعلومات أو الأحداث أو حياة الآخرين بطرق تختلف أشكال العرض فيه منذ أول عرض قدمه.. ويطرح مع ذلك (متجاوزا الشكل) مضمون الخطاب أو محتوى المنقول، لكن ما الذي يشدنا في التلفزيون وما الذي لا نجد فيه ما يشفي غليلنا؟ قد نجد فيه عالم آخر ولو افتراضيا، يستطيع أن يؤثر في أحاسيسنا ومشاعرنا ويمكنه أن يغير نمط عيشنا وتصوراتنا وأفكارنا وحتى تقاليدنا وأعرافنا.. والذي لا نجد فيه هو كيفية التحكم في ذلك العالم الافتراضي، وفي الأشخاص الذين نعرف تفاصيل حياتهم فيه.
تخيل نفسك أنه بإمكانك التحكم في أحداث الفيلم الذي تشاهده أو في نهايته ! ومن منا لم يرغب يوما ما بعدم نهاية فيلمه أو مسلسله المفضل ! هاته الأشياء هي التي نحتاجها في لجوءنا إلى أحد العوالم الافتراضية، والتي يمكن للخيال والتلفزيون أيضا أن يكون إحداها ، لكن الذي يتجسد فيه القول هي ألعاب الفيديو. إنها التجسيد الحقيقي لرغبتنا في السفر إلى عوالم بمقدورك التحكم في أبعادها الأربعة !
ومع ذلك، ما الذي يضر؟ فقد يكمن المشكل في مسألة الفرد داخل المجتمع أو المجتمع والفرد؛ أين موقعهم ودورهم داخل حلقة الافتراضي والواقعي؟
"المكان الثالث".. الرقمي
يولي علم الاجتماع اهتماما بما يسمى بالمكان الثالث؛ وهو الفضاء الذي يشكل التقاء الأشخاص بعيدا عن العمل أو الدراسة وعن الأسرة، حيث يمكن لهم الالتقاء والتحرر من الرسميات وواجبات اليومي، مثل الأندية والاستراحات العمومية والمقاهي وحتى أماكن اللعب التي ذكرناها آنفا. لكن العالم "اولدنبرغ Oldenburg" لاحظ تراجع وغياب هذه النشاطات في حياة أكثر المجتمعات العصرية. ويعرف المتخصصون في هذا المجال أن الروابط الاجتماعية وشبكة العلاقات تـُقوى وتـُؤسَّس في الأمكنة الثالثة أكثر. لكن في السنوات الأخيرة ومع توسع شبكة الانترنت بفضل تكنولوجيا الاتصال والتواصل، تحول المكان الثالث إلى مجتمع افتراضي أو ما يسمى بالفضاء السيبري- الرقمي. وبالتالي أتاح هذا المكان، حسب علم الاجتماع الآلي، إمكانية التعبير والاختيار والاختفاء والحضور والغياب ونعم ولا.. بشكل لم يكن متاحا في المجتمع التقليدي. لكن يعيب البعض عليه في الوقت نفسه، أنه يخلق نوعا من الفردانية والغياب الفعلي لدور الفرد داخل مجتمعاته الرسمية. وفي نفس السياق، يرى البروفيسور روبرت بوتنام الأنشطة الاجتماعية، مثلا في أمريكا، التي تمثلت في احتفالات العشاء ولعب البولينغ بدأت تختفي يوما بعد يوم.. فاختيار الأمريكي، حسب بوتنام، اللعب والعيش وحده، يجعلهم يفقدون "رأس المال الاجتماعي" أو عامل الثقة لديهم.
إن تخوف هذا البروفيسور لا يختلف كثيرا عن أوضاع بعض المجتمعات العربية مادام السبب الذي يؤثر على الروابط الاجتماعية بنفس الشكل. فمع رقمنة الحياة اليومية كان لابد من الانصياع لضرورات الاستعمال أو ما ستؤول إليه رغبتنا في البحث عن المجتمع الأفضل، والرقمي الأكثر أريحية.
ولا ضير أن نضرب مثلا افتراضيا لنبين واقعا افتراضيا ! ففي فيلم Click تتمحور الفكرة حول رغبة الإنسان في امتلاك أداة التحكم (Télécommande - بالفرنسية) بالواقع، وهي أداة نتعامل معها يوميا وتعد من أساسيات الحياة العصرية، لكن في الفيلم تجاوز استعمالها إلى إمكانية التحكم في الأحداث التي نعيشها بتسريع الزمن أو توقيفه. والفيلم دون شك يمس داخل قرارة كل مشاهد رغبته في تحول تلك الفانتازيا إلى حقيقة ! ففي عالمنا الافتراضي يجد الإنسان كل ما كان ينقصه أو ما يتمناه؛ يجد فيه إمكانية اختيار الزمن والمكان والأشخاص وحتى إمكانية الخلود. وهذه "الأوهام" طبعا هي الملاذ، حسب علماء النفس، الذي يجد فيه مدمنو الألعاب الافتراضية أنفسهم.
إن الألعاب المتاحة حاليا في الأسواق الواقعية والافتراضية وبتقنياتها المتجددة، هي التي تجاوزت ما أسموه بالإنسان الآلي، فالإنسان الافتراضي (اللاعب المدمن على الألعاب الافتراضية) أكثر خطورة من الإنسان الآلي، كما يدعي البعض؛ لان الأول لا يفرق أحيانا بين ما هو واقعي وما هو افتراضي (وتعتبر من سلبيات اللعب)، أما الآخر فإن وسيلته رقمية وغايته التعايش بواقعية.
إذا رجعنا إلى ما بدأنا به أول هذه السطور، وأردنا أن نبرر غياب تلك الألعاب الجماعية في الشارع، فالكل يعرف أن الزخم الهائل للتكنولوجيا التي اجتاحت تحركاتنا اليومية، و"عولمة" أولوياتنا، وصراعنا المستمر مع "الزمن الاقتصادي"، وتسليع "الاستهلاك الروتيني"... كلها عوامل ساهمت في اختفاءها، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الشكل هو الذي تغير. فرغم ادعاءات البعض أن العالم الافتراضي يصنع الفردانية في التعامل والعيش، إلا أن المتتبع لتأثير الميديا عموما سيجد أن الرقمنة ساعدت كثيرا وخلقت روابط اجتماعية أكثر من قبل؛ فاليوم يمكنك أن تلعب (أفراد وجماعات) مع أشخاص من كل قارات العالم، ويمكنك خلق بطولات عالمية كما نشاهد في كندا وكوريا وفرنسا. وذلك بفضل ما وفرته لنا آليات خلق المجتمعات: تكنولوجيا التواصل.
والشاهد الذي يمكن إضافته هنا هو انتشار مشاريع تعرف بمقاهي الانترنت، ومثلها تكونت (مثلا في المغرب) مقاهي مخصصة لألعاب "Play-station". حيث يجتمع الأطفال مثل ما اجتمع آباءهم قبل 20 سنة في المقاهي والشوارع. وبغض النظر عن نوعية الألعاب، فهؤلاء الأطفال، كما يقولون، يجدون متعة أكثر في اجتماعهم على اللعب "الافتراضي"، لإحساسهم بنشوة الانتصار "الواقعي".