من النص إلى النص المترابط. حوار مع د. سعيد يقطين.
أجرى الحوار د. محمد الداهي
1-إن المتتبع لأعمالك سيلاحظ أنك تعهدت بإنجاز
تصور شمولي للسرديات. لم يظهر من هذا المشروع إلا الجزء الأول الذي يتعلق بسرديات القصة.
وبدلا من إتمام الحلقتين المتبقيتين (السرديات الخطابية والسرديات النصية) انشغلت بمواضيع
أخرى (علاقة النص بالمؤسسة، والترابط النصي). ما البواعث التي جعلتك تؤجل إتمام المشروع
الذي انخرطت فيه؟ ولم بقيت وفيا للتصور الشعري رغم ظهور مناهج جديدة تقدم تصورات مستحدثة
لمفهومي الخطاب والنص؟
جواب: مايزال التعهد قائما، غير أن الانشغالات المتصلة
بالموضوع تدفع بين الفينة والأخرى إلى فتح قنوات جديدة، وروافد أخرى وهي كلها تصب في
المجرى نفسه لأنها تصدر عن المنهل
عينه بهدف التعميق والتطوير. إنك تشير بطريقة مباشرة
إلى الكلام والخبر وقال الرواي. وهذا صحيح، إذ تم التوقف مؤقتا عن استكمال قال الرواي،
وهو بحث في السيرة الشعبية، من الزاويتين الخطابية والنصية. لكن الأدب والمؤسسة والسلطة
كانت القضايا التي يعالجها في الواقع مواكبة لما قبل هذين الكتابين. إنه يتناول جملة
من الإشكالات التي ظلت تستحوذ علي طيلة انشغالي بالأدب والثقافة بالمغرب والعالم العربي.
وكنت دائم التردد بين الانشغال بالقضايا الراهنة من خلال التحليل الفكري والسجال المعرفي
أو الاهتمام فقط بالجانب الأكاديمي والبحث العلمي. وظهر لي من خلال الممارسة أن المزاوجة
بينهما بين الفينة والأخرى، ضرورة وليست اختيارا،
وإن كان يؤجل أو يؤخر البحث العلمي، فهو يلتقي مع الممارسة العلمية التي أنشدها دائما،
وإن كان يمارس بكيفية أخرى. وفي هذا السياق جاء هذا الكتاب التي كانت مادته جاهزة،
فكلفت نفسي مراجعته وترهينه نسبيا. أما من النص إلى النص المترابط فكان بدوره، وإن
اتخذ في بعض الأحيان طابعا سجاليا، فهو تأسيس لرؤية جديدة لفهم وممارسة الأدب والثقافة.
إذ بدا لي من خلال الاطلاع على ما يتحقق في مضمار النص الإلكتروني أن تأخرنا فظيع في
هذا المنحى. وكما أشرت في ملحوظة تصديرية، أن مادة الكتاب كانت شبه تامة في آخر سنة
من القرن العشرين. وأجلت إصداره لأسباب عديدة، من بينها الانشغال بقضايا أخرى وفتح
نوافذ مختلفة، حتى بدت لي أهمية نشره بعد أن قطعت في مضمار ما يتصل به ما يشكل مادة
مستقلة يمكن أن تكون صالحة لكتاب جديد.
إن تهييء هذين الكتابين للنشر، ومشاركة الزميل فيصل
دراج في حوارية حول النقد الأدبي المعاصر ترتبط كلها بالمشروع العام الذي أشتغل به
منذ مدة، وليس فقط من خلال الكلام والخبر. لقد جاء الكتاب الأخير لتطوير ما دشن منذ
القراءة والتجربة. وأنا ما أزال أشتغل وفق المسار ذات. وخير دليل على ذلك يبرز في سؤالك
الأخير. إني أعمل دائما في إطار نظري محدد هو البويطيقا عامة والسرديات خاصة مع الانفتاح
على اختصاصات أخرى متعددة لكنها تظل مؤطرة في نطاق الاختصاص الذي أشتغل به. وفي ما
يخص النص، هناك فعلا مقاربات جديدة ومتعددة وأبحث فيها عما يتصل بالمشروع الذي أعمل
في نطاقه. ومفهوم النص المترابط يأتي في هذا المجال لتأكيد الصورة التي عملت وفقها
في تعاملي مع النص، لذلك فإني لا أزداد إلا تعميقا للتصور الذي أشتغل به. وما يؤكد
ذلك هو أن سرديات النص الإلكتروني واحدة من أهم الانشغالات التي تشغل بالي حاليا، الشيء
الذي يبين لك أنه حتى في السجال، أو مايبدو كذلك هناك دائما المشروع العلمي الذي أعمل
على بنائه.
2-استبدلت مفاهيم كانت رائجة في الخطاب العربي
المعاصر (على نحو التقليد والمحاكاة والتبعية والتغريب) بمفهوم التفاعل. لم اعتمدت
على هذا المفهوم لإعادة النظر في علاقة الشرق بالغرب؟
جواب: إن استفادتي من الأدبيات التي بدأت الاطلاع
عليها منذ بداية تكويني الأدبي والثقافي إذا لم تفدني في إعادة النظر إلى الأشياء فهي
غير مجدية. فأنا لا أتعامل مع نظريات النص وتحليل الخطاب مثلا فقط بهدف تحليل النصوص،
وعندما أنتهي منها أقذف بها. هذه في رأيي طريقة الأدواتيين الذين يوظفون مفاهيم وإطارات
نظرية ل" حل " مشاكل تحليلية، وفي غيرها من المشاكل يتعاملون بطرائق مختلفة
وتقليدية مع تلك المفاهيم. بالنسبة إلي ماأستفيده من قراءاتي واجتهاداتي أعمل على تمثله
حتى في حياتي اليومية. فنظرية التناص أو التفاعل النصي كما أسميه أحدثت تطورا كبيرا
في ضبط العلاقات بين البنيات النصية وغيرها، وبينت لنا بطريقة مخالفة لمجمل أوجه هذه
العلاقات. لذلك فعندما أنطلق من التفاعل بين الشرق والغرب أرمي من وراء ذلك تحديد أطراف
العلاقات الكائنة والممكنة بناء على شروط محددة، ويمكننا هذا من تجاوز المفاهيم ذات
الطبيعة السجالية مثل الاستيراد والتبعية لأنها ببساطة مفاهيم جاهزة ومسبقة، وهي تعكس
تصورات أكثر مما تسعى إلى رصد طبيعة علاقات وتحليلها تحليلا علميا. إنه ليس فقط فرقا
في توظيف المفاهيم، ولكنه أيضا اختلاف في معاينة القضايا وطريقة قراءتها وتحليلها.
وعندما أستبدل المفاهيم فذلك لأنها المفاهيم الجديدة أكفأ في رصد الظواهر من المفاهيم
التقليدية: لذلك أرى أن مفهوم التفاعل أدق في رأيي من مفاهيم التبعية، وسواها، تماما
كما أني صرت أكثر اقتناعا بأن التفاعل النصي أدق من السرقات والأخذ،،،
3-ما الأسباب التي جعلت هذا التفاعل لا يؤدي
دوره الإيجابي؟
جواب: عندما يكون هناك تفاوت تاريخي، بين الشرق
والغرب، وعلى المستويات كافة، يكون التطور غير متكافئ، والوعي بالإشكالات وكيفة معاينتها
وتقديرها متفاوتا أيضا. ونتيجة لذلك يكون التفاعل غير متوازن, ومفتاح أي تفاعل حقيقي المعرفة بالآخر معرفة عميقة،
وعندما تختل هذه المعرفة لدى طرف من الأطراف لا يؤدي التفاعل ثماره. إن العوائق المعرفية
وسواها تلعب دورا محددا في طبع التفاعل بسمات خاصة. وهذا ماوقع منذ ما عرف بعصر النهضة
العربي. لقد كان هناك جهل مستطير لدى العرب بالغرب، ورغم المجهودات التي بذلت لردم
الهوة بينهما على الصعيد المعرفي وخاصة من لدن العرب والمسلمين ها نحن نتبين رغم مرور
حوالي أكثر من قرن أننا ما نزال أمام العتبة، وأن معرفتنا بالآخر ما تزال محدودة جدا،
وأن المصادرات التي كانت في البداية عن الغرب ما تزال هي عينها، وأن تغيرات الرؤية
ظلت سطحية ولا تمس العمق.
4-من خلال سيرورة أعمالك نلاحظ أنك عربت مفهوم Hypertexte بالتعلق النصي ثم بالترابط النصي. لم تخليت عن المفهوم الأول؟ وفيم يكمن
الفرق بين المفهومين؟
جواب: ليس هناك أي تخل عن المفهوم الأول. ولكن هناك
بالأحرى استعمالا آخر للمفهوم نفسه واقتضى الأمر توظيف المفهوم المناسب. فمفهوم التعلق
النصي كمقابل ل
Hypertexte استعمله جيرار جنيت سنة 1982 في "
ألواح " وهي الترجمة المناسبة في رأيي لPalimpsestes لأن اللوح عندما
يمحى تظل آثار من الكتابة الممحوة تلوح للقارئ، ولهذا سمي اللوح لوحا. أراد جنيت بهذا
المفهوم العلاقة التي تربط بين نصين أولهما سابق والثاني لاحق. ولقد كرست كتابي حول
الرواية والتراث السردي لتحليل هذه العلاقات. كان جنيت يرمي إلى تدقيق العلاقات بين
مختلف الأوجه التي تصل نصا بنص. أما المفهوم الثاني والذي ترجمته بالنص المترابط فهو
مختلف تماما: إنه ولد أولا من رحم المعلوميات في أواسط الستينيات وليس من نظرية الأدب،
وأراد به نيلسون ثانيا إقامة ترابطات بين الوثائق الكثيرة جدا والتي كان يتعامل معها
ليسهل عليه الرجوع إليها في أي وقت. وبواسطة هذه الترابطات يمكن الانتقال بين النصوص
المختلفة والمتعددة تماما كالموسوعة الإلكترونية فهي خزان من النصوص، ولا يمكن الاستفادة
منها إلا عبر حرية وحيوية الانتقال بين مختلف مكوناتها. إن الترابط النصي إلغاء للخطية،
وتأكيد لتعدد أبعاد النص. وهذه من أهم السمات التي عمل المشتغلون بالأدب منذ البنيوية
على تأكيدها، ومع التطور تبدت هذه السمات في مختلف نظريات النص. إن الترابط النصي وفق
هذا التحديد مختلف عن التعلق النصي وإن كان المفهوم في اللغات الأوربية واحدا. لقد
اجتهد كل من نيلسون وجنيت وقدما مفهوما منح كل واحد منهما خصوصية في الاستعمال، وعندما
نترجم إلى العربية مثل هذه المفاهيم علينا أن نكون يقظين ومنتبهين إلى خصوصيات الاستعمال.
فالمفهوم نفسه له في نظرية الأدب دلالة وفي المعلوميات دلالة مختلفة.
5-لم حتم مفهوم الترابط النصي إعادة النظر في نظرية التفاعل
النصي؟
جواب: لما
كان مفهوم الترابط النصي متصلا بالنص، فهو من ثمة يدخل في نطاق التفاعل النصي. ولما
كانت هذه العلاقة (الترابط) جديدة في التعاطي مع النص، أي أنها وليدة النص الإلكتروني
بامتياز، فكرت في إعادة النظر في التفاعل النصي في ضوئها. ولقد كان الفصل من النص المترابط
إلى النص (151 من الكتاب )، وهو عكس للعلاقة التي اتخذت منذ تبلور النص المترابط، محاولة
مني لإعادة النظر في النص ومجمل علاقاته من منظور النص المترابط، ومن هنا تحتم علي
الاجتهاد لإعادة النظر في التفاعل عبر إدماج الترابط ضمنه. وفي هذا إغناء للترابط النصي
من جهة، ونظرية التفاعل النصي من جهة ثانية ونظرية النص من جهة ثالثة.
هذا مارمت القيام به، إلى حد ما، انطلاقا من فكرة
أن أي مفهوم جديد في رصد خصوصية النص تكون له كفاية ما في معاينة طبيعته إذا ما أحسنا
التعامل معه. إن سمة "الترابط"، ونحن نعمل على إدماجها ضمن نظرية التفاعل
النصي تبين لنا بجلاء أنها خاصية نصية موجودة، وأنها ليست خالصة للنص الإلكتروني، ما
دام إنتاج أي نص كيفما كان نوعه يخضع للآليات نفسها وإن تغيرت الوسائل. هكذا فالترابط
هو العنصر الأساس الذي يضمن انسجام النص واتساق عناصره ومكوناته. وهو يتحقق لأسباب
عديدة تكمن في طبيعة بناء النص ذاته. وإذا كانت نظرية النص قبل تبلور مفهوم الترابط
النصي تعتمد مبدأ " وحدة " النص العضوية انطلاقا من عناصر تفترضها القراءة
التأويلية لضمان هذه الوحدة، فإننا مع مفهوم الترابط ننطلق من كون النص مجموعة من البنيات
النصية المتعددة الأنواع، وهذه البنيات عبارة عن شذرات أو عقد , والروابط بينها هي
التي تحدد " نصية " هذا النص. ومن هذا المنظور يمكننا فعلا إدراج الترابط
النصي باعتباره ليس فقط سمة من سمات النص الإلكتروني، ولكنه موجود في أي نص بكيفية
مخالفة لما يتحقق في النص الإلكتروني. ولعل تعميق هذا الجانب ( الترابط النصي ) من
خلال البحث في النص غير الإلكتروني سيمكننا ليس فقط من التطور في فهم النص، بل يتيح
لنا أيضا المشاركة في إنتاج النص الإلكتروني القائم على خلفية الترابط.
6-كيف يمكن أن يستثمر مفهوم الترابط النصي
في مقاربة النص الأدبي واستجلاء جوانبه ومكوناته التي لم يسبق للباحثين أن عالجوها؟
جواب: يستدعي هذا الأمر أولا معرفة خصوصية الترابط
النصي، وثانيا التوقف عند النص المكتوب من خلال ضبط معيناته التي يتم بواسطتها الربط
بين مختلف أجزاء النص، وقراءتها قراءة جديدة في ضوء مفهوم الترابط النصي. إن الأمر
يتطلب إعادة فهم النص من منظور مغاير. وإني أعمل على كتاب يحاول وضع صورة الترابط النصي
من خلال البحث في النص المكتوب، وخاصة الرواية، وأتمنى أن أجيب من خلاله عن السؤال
الذي تطرح نظريا وتطبيقيا.
7- لم مازالت كتابة النص المترابط في الثقافة
العربية محدودة جدا؟
جواب: ببساطة لأن النظرية لم تتطور عندنا بما فيه
الكفاية، وأن تعاملنا مع تطور النظريات الأدبية الجديدة، مايزال ناقصا، وتطور نظريات
علوم التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل ما يزال عندنا في باب المجهول. وكلها عناصر
ضرورية لممارسة كتابة النص المترابط. كما أن عزوف الكتاب والمثقفين عن دخول عالم الوسائط
المتفاعلة والاشتغال بالبرمجيات عامل إضافي
يساهم في طبع الممارسة بالمحدودية.
8-ما هي المشاكل التي يعاني منها النشر الإلكتروني
العربي؟
جواب: المشكلة الكبرى هي أنه مايزال غير تفاعلي،
أي أنه لايقوم على الترابط. إنه نقل للنص من المكتوب إلى الرقمي بدون توظيف أهم مقوم
في الكتابة الرقمية وهو البعد الترابطي. كما أن الذهنية المتحكمة فيه هي الذهنية التجارية
التي حكمت الكتاب المطبوع. وهذان العاملان يؤخران انتقال النشر العربي إلى مستوى النشر
الإلكتروني فعلا. قد تنقل النصوص العربية قديمها وحديثها إلى الفضاء الشبكي عبر الحاسوب،
لكنها ستظل ما قبل رقمية وإن تغير الوسيط لأن الذهنية التي عملت بها ما تزال ترتهن
إلى النشر الورقي.
9-لم ما زالت الذهنية التقليدية تتحكم في
النشر الإلكتروني العربي؟
جواب: إن الانتقال من مرحلة في العمل والتفكير لايعني
بالضرورة تحولا جذريا في التفكير والعمل، ولا سيما بالنسبة إلينا نحن العرب. فمنذ ما
يعرف بعصر النهضة ظلت مختلف البنيات تتعايش، وتتنابذ، إلى أن صارت القاعدة عندنا عمليا
هي الحداثة تقليدية، والتقليد حداثة، ولم يحدث أي تحول حقيقي على المستوى الاجتماعي
يمكن أن يسهم في تغيير الذهنيات والتصورات. لذلك قد يتم تغيير الوسيط، لكن الذهنية
التي توظفه تظل هي هي. وعدم التغير هذا يبين بجلاء أن التطورات التي تطرأ على بنياتنا
الاجتماعية والاقتصادية والفكرية لا تلامس إلا الأشكال أما المضامين فتظل محتفظة بكل
مقوماتها الجوهرية. واستمرار هيمنة الذهنية التقليدية في النشر الجديد يبين بجلاء أن
الذين دخلوا مضماره ظلوا محافظين على تقاليد النشر القديم، وهم ينقلونها رغم التحولات
الطارئة. إنها ذهنية جامدة في العمق، سريعة التحول على مستوى السطح.
10- كيف يمكن أن تستثمر الوسائط المتفاعلة لخدمة
الثقافة العربية، ونشر اللغة العربية السليمة التي تزايد الاهتمام بها في الغرب؟
جواب: رغم كون مرحلة الوسائط المتفاعلة ما تزال
في بداياتها فقد قطعت أشواطا عديدة في الغرب. ويمكننا الحديث الآن عن ثورات متلاحقة
في هذا المجال. في واقعنا العربي ما تزال الوسائط المتفاعلة غير موظفة بما فيه الكفاية
وفي مختلف مرافق الحياة. لاداعي للتركيز على العوائق فهي عديدة، ولقد حاولت في الكتاب
الوقوف على أهمها. بقيت إشارة أخيرة تتصل باللغة العربية في علاقتها بالقنوات الفضائية
وشبكة الإنترنيت، لقد كان من الممكن أن تلعب هذه الوسائط دورا كبيرا في تطوير العربية،
لكن طابع الاستسهال والبحث عن الزبون بأي ثمن، ساهم في تطوير اللهجات المحلية والهزل
بدل أن يكون العكس لما توفره هذه الوسائط من إمكانات هائلة للتواصل، وهنا أيضا يبدو
لي أن المثقفين يتحملون قسطا من المسؤولية.
11-بدأنا نلاحظ في السنوات الأخيرة إقبال كثير
من المثقفين العرب ( على نحو محمد أسليم، أحلام مستغانمي، سيف الرحبي، جمانة حداد،
سعيد يقطين…) على تخصيص مواقع لهم على الانترنيت بهدف التعريف بمنشوراتهم والاتصال
بهم عند الضرورة. ألا ترى بأن المواقع العربية على شبكة الآنترنيت، رغم أهميتها وملاءمتها،
لا تستوعب مختلف مكونات الثقافة العربية وتجلياتها؟
وكيف يمكن أن تعزز هذه المواقع على نحو يمكنها من إعطاء تصور شمولي وإيجابي عن الثقافة
العربية والإسهام في تحديث المجتمع وتثوير بنياته الذهنية؟
جواب: صحيح، لايمكن لهذه المواقع الشخصية لهؤلاء
الكتاب أو الفنانين أن تعكس كل مكونات الثقافة العربية نظرا لغناها وتشعبها. لكن لها
أهمية قصوى في تمثيل جزء من هذه الثقافة. يبدو لنا ذلك بجلاء في كون الباحث العربي
( المستعمل ) عندما يريد التعرف على مختص عربي في مجال من المجالات الفكرية أو الإبداعية
( التشكيل مثلا )، ويستعمل محرك البحث ( غوغل مثلا ) كاتبا عبارة " الفنون التشكيلية
العربية "، فإذا لم يقدم الفنانون التشكيليون العرب على فتح مواقع لهم في الشبكة،
سيكون من الصعب على الباحث التعرف على وجود " تشكيل " عربي. لكن، على العكس
من ذلك، إذا أقدم العديد منهم على ذلك، ستكون أمام الباحث مادة هامة تمكنه من تكوين
فكرة شاملة انطلاقا من تصفحه أو زيارته لهذه المواقع. وقس على ذلك.
فكلما كثرت هذه المواقع الشخصية للكتاب والفنانين
والمفكرين والمبدعين في مختلف الفنون والمعارف والإبداعات تأتى للفضاء الشبكي العربي
أن يغتني بهذا الحضور، وبذلك يمكن أن يتعزز، ليس فقط الحضور الثقافي العربي، بل الحضور
العربي أيضا.
وإلى جانب المواقع الشخصية يمكن للمواقع العامة
( مؤسسات ثقافية وإعلامية،،، ) ومواقع أخرى لعلامات من الثقافة العربية القديمة، كأن
يقوم مجموعة من المثقفين مثلا بإنشاء مواقع لشعراء قدامى، أو لمدارس أدبية أو فكرية،،،
كل ذلك وسواه من المبادرات يمكن أن يسهم في تعزيز الثقافة العربية على الشبكة. ولقد
جاء كتابي من النص إلى النص المترابط ليكون من بين أهدافه الأساسية الدعوة إلى تحفيز
المثقفين والمفكرين العرب إلى التعامل مع الفضاء الشبكي من خلال إنشاء مواقع خاصة بهم
أو بشخصيات ثقافية قديمة. لأن أي تأخر في ذلك لا يمكن إلا أن يسهم في التأخر في دعم
الثقافة العربية وخدمتها.
عندما نقارن مثلا المواقع " الغنائية
" العربية على الشبكة بمواقع الثقافة العربية سنلاحظ الفرق الكبير. وهذا وحده دافع لجعل المثقفين
يحسون بالتقصير في هذا المضمار.
12- من نتائج الثورة الإعلامية أنها نوعت من
أشكال الترابط النصي؟ فيم تتجلى هذه الأشكال؟ وما أهميتها في تحسين التواصل بين الناس
على اختلاف مشاربهم وجنسياتهم؟
جواب: تنوعت أشكال الترابط النصي، باعتبارها تقنية
لتقديم المعلومات وبناء النص الإلكتروني، لحاجات فنية وإبداعية وتعليمية ودلالية. وهي
في تنوعها هذا تستجيب لمختلف الإمكانات التي يتيحها النص المترابط للتعامل معه وفق
خصوصيته وطريقته التعبيرية. ولقد ميزت في الكتاب بين نمطين كبيرين: البسيط والمركب.
تكمن أهمية النص المترابط البسيط في كونه يحقق الحد المعقول من الترابط الذي يفيد في
الانتقال بين عقد النص وشذراته بناء على ضرورات معرفية تمكن المستعمل من تحصيل المعارف
تبعا لمقتضيات المادة التي يتعامل معها. أما النمط الثاني المركب، فهو الذي يمكننا
إدراجه في نطاق " السيبر نص "
Cybertexte) )، وهو النص الإبداعي الإلكتروني شديد التعقيد، والذي
لا يمكن التعامل معه إلا من منظور إبداعي يسمح للمستعمل بتشكيل النص الإبداعي الذي
يتعامل معه وفق طرائق خاصة في التحرك في بنية النص. ولو شئت تبسيط هذه الفكرة لقارنت
النمط الأول بالرواية التقليدية التي يمكن للقارئ التحرك في جسدها بسهولة بتحصيل دلالة
الرواية وجماليتها. أما النمط الثاني، فنجد له صلة عميقة بالرواية الجديدة في أقصى
درجات تعقد بنائها. لذلك يكون القارئ مدعوا إلى بذل مجهود أكبر لفهمها واستيعابها عن
طريق إعادة قراءتها مرارا وتكرارا. ومعنى ذلك أن كل الأشكال بسيطها ومركبها تستجيب
للحاجيات التواصلية المختلفة، وتراعي في كل الأحوال مختلف الحساسيات والمستويات الإدراكية
والثقافية.
13- أصبح الأمي، في الوقت الحاضر، ليس فقط من
لا يتقن القراءة والكتابة، وإنما أيضا من لا يحسن استعمال الحاسوب. ما تأثير الأمية
المعلوماتية على تطور الشعوب؟
جواب: لقد غدا من البديهي اعتبار الإنسان في كل
مراحل تطوره التاريخي والاجتماعي والثقافي مطورا لوسائل تواصله مع الآخر، كما أنه يسعى
أبدا إلى الكشف عن وسائط جديدة لٌبداع والتواصل مع ذاته ومع العالم من حوله. فكما تطلب
اختراع الكتابة آلاف السنين لتدوين أفكار الإنسان بهدف تخزينها واسترجاعها وقت الحاجة
والاحتفاظ بها لمقاومة الزمان، جاءت المطبعة بعد أزمنة طويلة لتسهم في تطوير الكتابة
وتسريعها وجعلها أكثر قابلية للتداول بالمقارنة من المخطوطة باليد. ومع التطور صار
بإمكان الإنسان الآن أن يدون الصوت والصورة ويزنهما ويحتفظ بهما آمادا طويلة، كما كان
الأمر في البداية مع الكتابة. ويبين هذا التطور في إتاج الوسائط أن رغبة الإنسان لا
حصر لها وهي مفتوحة في كل حقبة على التطور.
غير أن ما يمكن تسجيله في هذا النطاق هو أن أي وسيط
يستدعي التعرف عليه وعلى كيفية استعماله وإنتاجه بهدف استثمار الإمكانات التي يقدمها
على نحو أمثل. لذلك لا يمكننا أن نتحدث فقط عن أمية معرفة القراءة والكتابة، ولكن أيضا
عن أمية صناعة أدوات الكتابة والقراءة. فالكاتب قديما، ليس هو فقط من يحسن القراءة والكتابة، ولكنه ايضا من يعرف كيف
يصنع القلم الذي يخط به، ويهيء المداد الذي يستعمله للكتابة، قبل ان تصبح هذه الصناعات
مستقلة بذاتها في العصر الحديث.
إن الأمر نفسه ينسحب على المعلوميات لأن التعامل
بها يستدعي ثقافة خاصة. ومن لا يمكلك هذه الثقافة، ولو في حدودها الأساسية، لا يمكن
سوى اعتباره أميا "جديدا". ويمكن الآن، اعتبار التغلب على هذه الأمية الجديدة
معيار تقدم الأمم وتخلفها. لذلك نرى الدول الصناعية حيث تطورت تكنولوجيا الإعلام والتواصل
ومختلف الوسائط الجديدة أن الأمية الجديدة فيها نادرة جدا بالقياس إلى دول الجنوب بصورة
عامة. لقد أضيفت تحديات جديدة أمام العالم العربي والإسلامي، وأي تأخر في تدارك هذا
الأمر، وفي محاربة هذه الأمية الجديدة لا يمكن سوى أن يتضاعف التأخر ويؤثر ذلك سلبا
على أي تطور.
14-نلاحظ إقبال الشباب على محلات الأنترنيت.
لكنهم لا يبحرون إلا في الموقع التي تخدم أغراضا
محدودة جدا (الصداقة، الزواج،الهجرة، الدراسة). كيف يمكن توجيههم للإبحار في المواقع
التي تساعدهم في التحصيل الدراسي، وتسعف في تطوير قدراتهم التواصلية؟
جواب: لابد أولا من تسجيل أن الشباب والأطفال أسرع
استجابة وتفاعلا مع هذه الوسائط الجديدة من آبائهم. وهذا الوضع بقدر ما هو إيجابي لأنه
يجعل الأجيال الجديدة والقادمة مؤهلة أكثر للتعامل مع هذه المنجزات بلا مركبات ولا
مخاوف، نجد له آثارا سلبية، لأن هذه الأجيال تتفاعل بصورة عفوية مع هذه الوسائط، وبالأخص
الفضاء الشبكي. إنها تدخل هذا الفضاء هربا من عالمها الموبوء والمزري من جهة، كما أنها
تسعى للانغمار فيه بدافع فضولي لاستككشاف مناطقه المجهولة واللامحدودة.
هذه العفوية في تعامل الأجيال الجديدة مع الفضاء
الشبكي تجعلهم لا يتوجهون إلا إلى عوالم خاصة تستجيب لأهوائهم الظرفية الخاصة: إنهم
يبحرون في محيطات بلا شطآن، وهم غير مزودين بدفة الإبحار المحكم والموجه عن غايات مرسومة.
هنا يأتي دور المثقفين والكتاب ورجال التربية لوضع
معالم وملامح لهذا الفضاء الثقافي الجديد تنظيرا وتطبيقا وتوجيها. إن الساحة فارغة،
وغياب نقد الوسائط واستعمالاتها لا يمكن إلا أن يترك المجال مفتوحا للاستيهام، بدل
أن يكون فضاء للإلهام. وعندما يكون هؤلاء المثقفون ورجال التعليم بعداء عن هذا الفضاء،
إما لأنهم غير معنيين أو لأنهم يرونه موضة أو موجة لا يودون ركوبها، أو بسبب الأمية
الجديدة التي أشرنا إليها، تنغمس الأجيال الجديدة في هذا البحر العجاج المتلاطم بالأمواج
بدون توجيه ولا قصد محدد، فيكون التيهان وسط الإبحارات المتعددية والجزافية ويتم الإرساء
على الجزر الأهوائية التي لاتفيد ولا تغني في تطوير المدارك والمعارف.
15- ما مقومات جماليات الإبداع التفاعلي؟
جواب: أستعمل الجماليات هنا كما تستعمل الأسطوريات
والسرديات وسواها بمعنيين مختلفين: من جهة الإبداعات التفاعلية في حد ذاتها، والجماليات
كاختصاص يعنى بالإبداع التفاعلي. فالاختصاص لا بد من ظهوره ولا بد من إقدام المشتغلين
بالثقافة والفن والأدب على البحث فيه وتشكيل إجراءاته بهدف التوجيه والنقد والتنظير،،،
أما الإبداع التفاعلي، من حيث طبيعته الجمالية، فهو سليل التصورات الجمالية المتراكمة
منذ القدم، من جهة، وهو من جهة ثانية يتولد من رحم التكنولوجيا التي تقدم إمكانات مذهلة
للإبداع والخلق. ولا بد من امتلاك التصور الجمالي كخلفية معرفية لها أسسها في التاريخ،
ولا بد أيضا من مواكبة الإنجازات التي تحققت في مضمار الإبداع التفاعلي من خلال مختلف
الأنواع: الرواية، التشكيل، الشعر،ألعاب الفيديو،،،
16-لم تقصدت في كتابك الأخير توظيف الأسلوب
الجدالي والتحدث عن تجاربك الشخصية؟
جواب: تولد هذا الجانبان من الحالة النفسية التي
واكبت هذا العمل. فعندما أزور المواقع الأجنبية أو أبتاع برمجيات أجنبية، واقارن مع
ما يتصل العربية أحس بالفارق الشاسع بيننا وبينهم. هذا الإحساس يولد لدي الشعور بالامتعاض
وشبه اليأس من الوصول إلىما وصل إليه الآخرون. وعندما أتأمل الكفاءات العربية أجدها
موجودة وقادرة على الخلق والإبداع، لكنها للأسف الشديد إما معطلة أو مهجرة. وهذا الوضعان
تتحمل الدول العربية المسؤولية فيهما. إن الإحساس بعمق المأساة هو الذي كان يدفعني
إلى هذا السجال أحيانا، أو إلى الحديث عن تجربتي الشخصية أحيانا أخرى. وكما قلت في
جواب سابق، لو كانت الظروف غير الظروف لاتخذ هذا الكتاب طابعا نظريا أو تطبيقيا، لكني
متيقن أنه سيكون بعيدا المتناول في غياب أدبيات تسنده أو كتابات أخرى تعضده. هل علينا
أن نساجل من أجل أن نقنع أو نحفز، أم علينا أن نشتغل علميا بغض النظر عن الفضاء الذي
ننتج فيه؟ هل الشعور يراودني في كل أعمالي
17- ما هي أهم الخلاصات التي خرجت بها في تقويم
وضع الترابط النصي في الثقافة العربية المعاصرة؟ وما هي اقتراحاتك لتجاوز مواطن القصور؟
جواب: الإمكانات في المغرب وفي العالم العربي موجودة،
وقادرة على الإبداع. وعدم الإقدام على استثمارها وتوجيهها ما يزال يلعب دورا يحجم من
انطلاقتها. لقد سبق التجار ورجال الاقتصاد والأعمال إلى الدخول إلى هذا العالم، بينما
تخلف المثقفون الذين كانوا أبدا في الطليعة. إن التفكير الجماعي في الوسائط المتفاعلة،
فهما واستيعابا، ونقدا وإبداعا، وتنظيرا وتطبيقا، هو المدخل الطبيعي لإعطاء هذه الوسائط
مكانتها في واقعنا لتسهم في التواصل، وتجديد أدوات التواصل والإبداع. وأي سوء تقدير
سيضاعف من التأخر والتخلف والتراجع عن دخول العصر، والمشاركة فيه بوعي وثبات ومسؤولية.